Mazen Salhi

Consulting Engineer | Dubai

للنزاع، أي نزاع، أسباب عديدة. يسري اعتقادٌ ضمني لدى المثاليين من المفكرين بأن “الأسباب الحقيقية” لمعظم النزاعات إنما هي مادّية. و أننا إن تمكنّا من معالجتها عبر تأمين احتياجات المحتاجين، فإننا سنصبح أقرب إلى حلّ معظم النزاعات، إلا أن الوقائع لا تدعم ذلك الاعتقاد. نعم، لقد ساعدت القوانين و التشريعات التي استهدفت الفقر و عدم المساواة في الفرص و التفرقة العنصرية، و كذلك تلك التي حاولت تلبية الاحتياجات المادية للأفراد و المجتمعات، ساعدت هذه القوانين و التشريعات في التقليل من النزاعات حول العالم. و لكن الكثير من النزاعات اليوم لا يمكن قولبتها ضمن إطار الاحتياجات المادية المباشرة، و لذلك فإنه لا يزال أمامنا طريق طويل جداً

ما السبب في ذلك؟ في رأيي أن السبب الأساسي في المأساة البشرية المتمثلة في النزاعات و الحروب المستدامة ليس الفقر و لا الفاقة، بل التصورات المتناقضة و المتنافسة للعالم و لدورنا و مكاننا فيه. و بالرغم من أن الاحتياجات الفردية و الوطنية مرتبطة بتصورنا عن العالم و مكاننا فيه، إلا أنها ليست مركزية فيه، بمعنى أن الفاقة ليست هي أساس ما يُشكل تصوراتنا عن العالم، بحيث أننا لو أشبعنا الفقر و الحاجة لوصلنا إلى الرضا و لانتفت الحاجة إلى النزاع. كلا، بل أكثر ما يحكم تصوراتنا كبشر هو الغرور، و الطمع، و قصور العقلانية، و تعقيد السيكولوجية الإنسانية بشكل عام. لن تغيّر البطون الشبعى، و لا المحافظ الملأى تلك الحقيقة

كبشر، لا يمكننا معرفة أية حقيقة كما هي فعلاً، و إنما نحن نكوّن بناءات ذهنية عن الواقع، هي عبارة عن تجريدات و تبسيطات للواقع كما نختبره. و بالطبع، فإننا نشحن هذه البناءات الذهنية بعواطفنا و مخاوفنا و غرورنا و أحكامنا، و من ثم نصوغ كل ذلك على شكل تصورات عن العالم تخدمنا نحن. عندما تتضارب تصوراتنا عن العالم مع تصورات جماعات أخرى، تتنافس معنا على نفس المصادر، يقع النزاع لا محالة

و بالنزول إلى الموضوع المطروح، فإن الأفراد و المؤسسات التي على طرفي النزاع المتنامي بين القوى العالمية و “الإسلام” لديهم تصورات متنافسة و متضاربة عن العالم. أرى أنه من الضروري وضع كلمة الإسلام بين هلالين لأن هناك قوى و حركات عديدة ضمن العالم الإسلامي نفسه تتصارع على ملكية التسمية و لا يمكننا في ضوء ذلك أن نعرّف بأي مستوى من الوثوقية مَنْ منها يتكلّم باسم الإسلام، المُعرّف بأل التعريف. لكن، و مع تنوع القوى التي تحاول الاستحواذ على “الإسلام” و التحدث باسمه، تنوّعاً يصل إلى دجة التصارع في ما بينها على ملكية الماركة، إلا أن هناك خطوط عريضة لا تخطئها العين، تشترك فيها معظم هذه التيارات أو القوى التي تتكلم باسم الإسلام، حيث كلها تصف تصوراً مشتركاً عن العالم. في هذه التصور “الإسلامي” نجد أن الإسلام لديه تفويض إلهي بضرورة وصوله لحكم العالم، و نجد الاعتقاد المشترك (بين معظم الفرق) بأن الإسلام سيصل يوماً ما إلى هدفه بالسيطرة على أربع أركان الأرض، و نجد أن من يموت من المسلمين في سبيل تحقيق ذلك الهدف النبيل، فهو يموت  بطلاً و شهيداً. نجد أن من يعارض أو يعترض ذلك التصور من الأفراد أو الأمم الأخرى فهم أشرار و “أعداء الله” و يجب تدميرهم، و نجد الاعتقاد الراسخ بأن الحقوق و الواجبات و القوانين التي تنطبق على الغير، لا تسري على المسلم، و بالعكس، و نجد الاعتقاد بأن كل ما يتيح لنا الوصول إلى ذلك الهدف السامي، مُباح

فأمامنا في ما سبق تصورٌ عن العالم، يخدم أتباعه و منظّريه، لا يكلّف نفسه النظر إلى الذات، و لا يقبل من الغير بأقل من الخضوع الكامل لإرادته، و هو تصوّر قد لاقى أثناء العمل به نجاحاً باهراً عبر مئات السنين في جلب الانتصارات العسكرية و الغنائم المادية و “العزة” العظيمة لأتباعه. فهو تصوّر لديه رصيد من المؤمنين به و من التاريخ، و لا يُمكن تسفيهه بسهولة

على الشق الآخر من الوادي العظيم الذي يقسم العالم اليوم، نجد قوىً عالمية، غربية تحديداً، يعتقد أتباعها، بدورهم، بأن التاريخ ينتهي تحت أقدامهم. يعتقد أولئك بأن لهم الحق في السيطرة على العالم بأسره، و في فرض نموذجهم الاقتصادي و الاجتماعي قسراً على البشرية مهما كان تنوعها الجغرافي أو الديموغرافي، و بأن قيمهم الثقافية متفوقة حُكماً على كل من ينافسهم أو يغايرهم، و بأن من حقهم، بل من واجبهم تحييد أي مُنافس جدّي، بشتى الوسائل بما فيها العنفية و العسكرية. يؤمنون بأن من حق قواتهم العسكرية أن تظل مستثناة من أية ملاحقة قانونية أممية، في حين على كل البشرية – سواهم – أن تخضع للمساءلة القانونية الأممية. و بأن على الكوكب كله اعتماد الدولار كعملة نهائية لأية تعاملات تجارية يقومون بها، حتى في ما بينهم. بل و تصل العنجهية ببعض المفكرين الأيديولوجيين الغربيين للتصريح بأن أعمال التخريب، و العرقلة الصناعية و التجارية، و استراق المعلومات الخاصة عن تفاصيل حياة مليارات البشر، بل و المشاريع الإجرامية ل “تغيير النظم”، و لو كلّفت ملايين الأرواح، فكلّها مُباح

هنا، نجد أمامنا تصوراً عن العالم يخدم أتباعه و منظّريه، و نادراً ما يلتفت ليحاسب ذاته. نجد تصوراً للعالم لا يقبل من الأغيار سوى الاستسلام الكامل لإرادته و لهيمنته الباقية، و التي “تتمدد” يومياً. و هنا، كذلك، نرى تصوراً قد لاقى باعتماده و تطبيقه نجاحاً باهراً في ضمان هيمنة الغرب على العالم بأسره، و في استجلاب الثراء المذهل لأتباعه، و المكانة التي لا تُقارن على صعيد العالم. و هنا، أيضاً، أمامنا تصوّر يحقق قدراً كبيراً من التجانس، و له رصيده الهائل على مستوى العالم

في الجوهر، فإن الأيديولوجيات “الإسلامية” و الامبريالية، و إن كانت تبدو متضاربة متناحرة، إلا أنها ليست بذلك الاختلاف عن بعضها البعض. صراعها الظاهري ناتجٌ لا عن اختلافٍ جوهري، بل عن تنافسها على نفس الغنائم، كلٌّ بأدواتها و بما تتقن و تقدّم لأتباعها. و في القلب منها، كلاها، نموذج أناني رابح/خاسر: أنا من حقي أن أربح، و عليك أنت أن تخسر

هل من الصعب رؤية لم تسبب هذه الوصفة النزاع المستدام على مستوى العالم؟

إذا أردنا فعلاً أن نكشف عن الأسباب الجذرية للنزاع، علينا أن نتجرأ على تحدّي تصوراتنا للعالم على نحو جوهري و بلا مواربة. لن تفلح، أبداً، القوة العارية في محق الطرف الآخر عن الوجود، مهما تمنّى مُنظروا القوة ذلك، و على الطرفين أن يعيا ذلك جيداً. إلا أن مواجهة التصورات لها طريقٌ واحد لا يمكن القفز من فوقه، و ذلك أن الإصلاح و تحدّي المسلمات يجب أن يأتي من الداخل، لا أن يُفرض فرضاً من الخارج

لا يمكن للإصلاح أو التجديد أن يُجرى للمجموعة، بل يجب أن تقوم به المجموعة بذاتها و لذاتها. ذلك أن أي تحدّ يأتي من الخارج سيُنظر فوراً إليه على أنه غزوٌ أو اعتداء، و سيتسبب في ردود الفعل المتشنجة التي يعشقها السياسيون الانتهازيون، حيث يبيعونها للجماهير و يحصلون مقابلها على المزيد من السلطات، كما يفعل أردوغان في تركيا حالياً

في الطرف الخاص بالمسلمين، فعلينا أن نتخذ القرار بالتأمّل مليّاً في المرآة، بأنفسنا. علينا أن نكُف عن التظاهر بأننا “عدّانا العيب” و بأن العالم كلّه يظلمنا و يعادينا بلا سبب. و علينا أن نكف عن ترداد الادعاءات الطفولية بأن داعش و النصرة و القاعدة و عشرات المجموعات المشابهة الأخرى “ليسوا مسلمين أصلاً”. و أنهم “لا علاقة لهم بالإسلام.” بل هم مسلمين حتماً و بكل تأكيد، و علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة. الاختباء خلف أصابعنا لن ينفعنا بعد الآن

يتمسّك مئات الملايين من المسلمين بالاعتقادات التي أوردناها أعلاه. نريد أن نرى الإسلام يحكم و يسود العالم. نتوق إلى الهيمنة على الأمم الأخرى، و إلى العزة المتأتية من ذلك. نحلم باليوم الذي نفتح فيه روما، كما فتحنا القسطنطينية من قبل. نعتقد أن الأمم تتداعى علينا “كما تداعى الأكلة إلى قصعتها” أي أنّها تريد أن تلتهمنا. العديد منا، خاصة الذكور الشباب، يحلمون بالسبايا

لكن نفس هؤلاء المسلمين، مئات الملايين من المؤمنين الذين كانوا و لا يزالون يمارسون حيواتهم اليومية بسلام، فيما هم يحملون تلك المعتقدات في ضمائرهم، عندما صعقتهم داعش و أخواتها بأفعالها صارخة الوحشية، موثقةً بالفيديو و الصوت و الصورة على اليوتيوب. الحالمون بالعزة و الغلبة، صدمتهم صور الذبح و قطع الرؤوس و الحرق، و الحالمون بالسبايا هزّتهم صور استرقاق و بيع السبايا الأيزديات

هناك انفصام عميق ما بين التصورات الذهنية التي لدينا، و ما بين الواقع. هذا الانفصام مُدمّر و لا يمكن التعايش معه، إذا أردنا أن نحيا بسلام مع بقية العالم. لا يُمكننا أن نستمر بتعاطي الأحلام اللذيذة عن “فتح” العالم، في ما تهزّنا أفعال الفرق التي تعمل بجد لأجل نفس الهدف الذي يدغدغ أحلامنا

علينا، كمسلمين، أن نمتلك مشاكلنا و أن نعترف بأزماتنا، و ألا نلجأ إلى الإنكار و الهروب إلى تقمص دور الضحية فذلك ليس إلا دفناً لرؤوسنا في الرمال، و هو ليس بحل. علينا أن نواجه و أن نمحّص و أن نتحدّى الكثير من معتقداتنا، و علينا أيضاً أن نعي تماماً ما الذي تعنيه أفكارنا و تصوراتنا. و إن كاتب هذه السطور يعتقد أن نسبة معتبرة من المسلمين اليوم قد قبلوا بهذا التحدي، و هم لم يعودوا يقبلوا بالمُسكّنات و لا بالمُخدرات و لا بمنطق المُنكرين و لا الاعتذاريين

إن الطريق نحو إعادة النظر في نظرتنا للعالم، و التخلّي عن معتقدات ثمينة لدينا سيكون طريقاً محفوفاً بالألم الشديد، إلا أنه لا مفر من سلوكه. لقد استهلكنا و أحرقنا كل المعالجات السطحية الترقيعية المزيفة، و قد بان زيفها و عجزها و هي لم تعد صالحة. علينا أن  نراكم الشجاعة و الإرادة لمواجهة الألم الفظيع الذي سيتأتّى من مواجهة كل ما هو غلط في نظرتنا لأنفسنا، في مكاننا بين البشر، في صميم معتقداتنا، و في نظرتنا إلى أخوتنا في الإنسانية من غير المسلمين

و في أثناء المرحلة القادمة من إعادة البناء، و لاتي ستمتد لا شك لعقود طويلة، على الدول الإسلامية أن تسعى لتجنب شن الحروب الاعتدائية، و في نفس الوقت، عليها أن تسعى لحماية أنفسها من خطر التحطيم القادم من الخارج، إذ بقدر ما أن العالم يحتاج لأن نُصلح من أنفسنا، بقدر ما هناك قوى في هذا العالم لا تريد لنا أن نخرج من حاضرنا المُزري أبداً و ستحارب لمنعنا من التحرر. هناك قوى أساسية في العالم، إقليمية و دولية و عالمية تنفق المليارات من الدولارات لتكريس التخلّف و الجهل و الوحشية و لإغراق المسلمين في المزيد من التخبّط، و لمنعهم من النهوض و من التحرر. تلك القوى تبذل جهوداً هائلة لقمع و دفن أية حركات نهضوية أو تحررية قد تنشأ في العالم العربي أو الإسلامي. هذه أيضاً حقيقة، و هي تجعل المهمة الملقاة على عاتق المسلمين أصعب بكثير

و أما على الطرف الآخر، فعلى القوى الغربية و بالتحديد الولايات المتحدة أن تمر بنفق الإصلاح الخاص بها هي كذلك، و إن كانت المهمّة الموكلة بها أقل صعوبة بكثير، من تلك التي تنتظر العالم الإسلامي. على الولايات المتحدة أن تقتنع بأنها أمة بين الأمم، و ليست أمة فوق الأمم. عليها أن تقبل بأن تلعب بعدل، و ألا تستخدم قواها الجبّارة في سحق الأمم الأضعف أو الدول التي لا تتفق معها. مشاريع تغيير النظم، مثل ذلك الذي تقوم به في سوريا، هي مشاريع شريرة تدمّر حياة الملايين من البشر. و استخدام الولايات المتحدة للقوى الراديكالية الإسلامية لبث الفوضى و الدمار في أي دولة تختلف معها يجب أن يتوقف. على الولايات المتحدة أن تترك الدول العربية و الإسلامية لتقرر مصائرها، و أن تقتنع بالفعل بأن فرض إرادتها في من يحكم و من لا يحكم في بلد ما هو ليس من حقها و بالتأكيد لا يجب أن يكون من أولوياتها

إدوارد سنودن، هو مثال للأمريكي الوطني المحب لبلاده و المحب للعدالة التي تحتاج الولايات المتحدة إلى أمثاله. شخص من داخل “النظام” الأمريكي يكشف ممارسات ذلك النظام أمام مواطنيه، و يجبرهم على التوقف و على النظر في المرآة. حبذا لو يقرأ الشعب الأمريكي الآلاف من الصفحات التي سربتها ويكيليكس، و يتفكروا بمستويات التسلط التي وصلت إليها المنظومة الحاكمة الأمريكية، و التي لم يكن يتخيلها اللآباء المؤسسون. و لعلّهم (أي الأمريكيين) يتفكرون بعد ذلك في احتجاجات الدول الصغيرة التي تنوء تحت الضغط الأمريكي الهائل و التدخل السافر في كل شؤونها الوطنية. الإصلاح يجب أن يأتي من الداخل، و بالفعل، فإن جوليان أسانج لم يأت بالوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس من مصادر غير أمريكية. بل إن أمريكيين وطنيين محبين لبلادهم هم من أعطوه تلك الوثائق الحساسة لنشرها. أمريكيون يؤمنون بأن مكانة بلادهم الحقيقية تكمن في كونها منارة للعدالة و الاقتداء حول العالم، لا أن تكون بلطجية الكوكب، أو المتلصص على خصوصيات مليارات البشر. يحتاج العالم، و تحتاج الولايات المتحدة إلى المزيد من هؤلاء الشجعان الذين يدفعون ببلادهم نحو الاتجاه الصحيح

في الحقيقة، فإن التحدي القائم أمام المسلمين اليوم أكبر بكثير من ذاك القائم أمام الغرب. كيف نُصلح نظرتنا إلى العالم إصلاحاً عميقاً غير صوري، لكن دون أن نهدد أرضية الهوية و قيمة ذواتنا و تراثنا لدى مئات الملايين من المسلمين؟ هذا من أهم التحديات التي سيكون على المسلمين مواجهتها خلال السنوات و العقود القادمة

كل من اضطر للتعامل مع المتعصّبين يعلم كم هي صعبة محاولة التواصل و التعامل معهم. غالباً ما يتعامل المتعصّب مع النقد العميق لفكره ز لمعتقداته على أنها تهديد يمس حياته، بل و ما هو أغلى من حياته. و في هذه الأحوال، فإن ردود الفعل تكون عبر مستويات قاتلة من العنف و اللاعقلانية. نفسية الإنسان عالم معقد و حساس، و الخطأ فيها قد يكون قاتلاً

و مع كل ذلك، فإن الأمل قائم و لم ينعدم

هناك الكثير من المسلمين اليوم ممن أيقظتهم صفعات الإسلام المتطرف إيقاظاً بذيئاً. للمرة الأولى عبر التاريخ البشري، أصبح بإمكان أي فرد كان أن يُشاهد الفظائع التي تحدث حول العالم لحظة وقوعها، و بكل تفاصيلها. و قد أدى ذلك إلى صدمة عظيمة لدى ملايين المسلمين ممن شاهدوا و سمعوا ماذا تعني الترجمة الواقعية لبعض النصوص المقدسة التي يؤمنون بها. و قد دفعتهم تلك الصدمات المتلاحقة للوقوف مليّاً أمام المرآة، حيث قد أرعبتهم و هزّتهم بعمق، صورتهم التي شاهدوها تحدق فيهم عبر شاشات اليوتيوب

و لكن، لعلها اشتدّي أزمةً تنفرجي. فقد كان غرض داعش و أخواتها من نشر كل ذلك العنف العاري أن يقذفوا الرُعب في قلوب أعدائهم، ليجبروا كل من يقف في طريقهم على الهرب أو الاستسلام. لكن على العكس من خطتهم، فإن الصدمة الأعظمية لما قاموا به قد أصابت أخوتهم المسلمين، و الذين في غالبيتهم العظمى قد تفاعلوا مع تلك البشاعة على غير ما كان أصحابها يخططون

توزع تفاعل المسلمين مع ذلك على طيف عريض، لكن هناك سمة عامة لذلك الطيف، ألا و هي المطالبة بالإصلاح و المراجعة للتراث و المعتقدات بشكل حقيقي و عميق. و إن أعداد المسلمين شباناً و شابات ممن يطالبون بذلك ما فتيء يزداد يوماً بعد يوم، و الأسئلة التي يطرحونها لم تعد سهلة، بدليل الصعوبة المتزايدة التي تواجهها المؤسسات الدينية الكلاسيكية في إقناع الشباب بالسرديات المعتادة. هذا الجيل الجديد من المسلمين يمر الآن، و إن كان بشكل متخبط و غير منظم ، بمراحل استعادة الوعي، و باستيعاب حقيقة تاريخه و معتقداته و هويته، بكل ما لكل هذه الأبعاد من عيوب و حسنات. لم يعد أولئك الشباب يخافون من تحدي الأفكار القديمة، لكن في نفس الوقت لم يقعوا في اليأس و في جلد الذات و الهزيمة النفسية. هذا الجيل الجديد من المسلمين و المسلمات، هم مصلحو الغد و مصلحاته، و هم اليوم يكسرون الأطر التي كانوا محبوسين بداخلها. هم يفعلون ذلك اليوم في السعودية و في إيران و في مصر و في العراق و في سوريا و في تركيا و في كل مكان من العالم الإسلامي، و هم يفعلون ذلك بالرغم من مواجهتهم قمعاً كبيراً. يسألون الأسئلة الجريئة التي لم يكن آباؤهم و لا أجدادهم يجرؤون على سؤالها، يصلون ببطء و لكن بثبات إلى الإجابات المؤلمة و الصعبة. يتعلمون كيف يميّزون الخلل و كيف يشخصون العلل، مهما كلف ذلك من وجع، و مهما سبب من توتّر لدى بعض رجالات المؤسسات الدينية المنغلقة. و الأهم من ذلك كما أسلفنا، أن الوعي الجديد لا يدفعهم إلى اليأس و لا إلى الانطواء أو الهروب من العالم، بل هم مصممون على أن يكونوا جزءاً من عالم الغد

إذا أراد العالم أن يصل إلى السلام، فعليه أن يساعد هؤلاء الشباب من المسلمين أو الأمريكيين أو الإسرائيليين أو غيرهم، ممن يتعلمون و يعلمون من حولهم شجاعة النظر في المرآة، و المصممين على المساهمة الإيجابية في العالم، بقوانين جديدة هي أقلل خللاً و أكثر عدلاً من ذي قبل

لن نصل إلى السلام عبر إهانة و إذلال الطرف الآخر، أو عبر القوة العارية. و أكثر التقنيات الأمنية تقدماً لن تحمينا من جنوننا إذا أصرّينا على اعتماد منطق الغلبة و القهرة في مواجهة الآخر. علينا تغيير منظورنا و ذلك لن يتأتى قبل تغيير أساليبنا

لن يأت أحد لإنقاذنا، و علينا أن نعتمد على أنفسنا. لن يكون هناك مسيح مخلّص، و لا مهدي منتظر، و لا فضائيين حُكماء يتدخلون لمنعنا من إفناء بعضنا البعض. و لا حتى يمكننا أن نجلس و ننتظر الحكومات لتبني برامج كبيرة للإصلاح، فيما نحن نتفرج بسلبية. هذا لن يصلح. علينا أن نكون التغيير الذي نرغب في رؤيته في العالم، كما قال ذات يوم المهاتما غاندي