Ali Haidar

SSNP leader, Syrian Minister National Reconciliation

إن العالم المعاصر هو في حالة استقطاب متشنج ضد ظاهرة الإسلام المتشدد التكفيري الطابع، مع أن هذا التكفير المتشدد ليس في الحقيقة التكفير المتشدد الوحيد في عالمنا الحاضر. لكن الإسلام التكفيري المتشدد لفت أنظار العالم كله إليه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 . لقد كان هذا الحدث المأساوي في الحقيقة، الشرارة التي أشعلت هذا الجو المحتقن.  نقول أنه ليس التشدد الوحيد، لأن المواقف السلبية المذهبية التوجه، التكفيرية الغاية موجودة في كافة الأديان، ولإن بشكل مضمر وغير علني، وأحياناً ظاهري. لقد كان موجوداً في كافة عصور التاريخ القديم والحديث نراه إن وجهنا أنظارنا الى الفئات التي ناصبت السيد المسيح عليه السلام وطالبت بصلبه، من تلموديين وفريسيين وحسيديم يهود، الى قادة الحملات الصليبية التي لم تنته إلا في القرن الثالث عشر بعد الميلاد، الى محاكم التفتيش الكاثوليكية التي وقفت نفس الموقف من مسلمي ويهود الأندلس، الى الظواهر المتشددة الدينية المعاصرة من التفوقيين البيض البروتستانت، والكو كلاكس كلان في الولايات المتحدة الأميركية، الى الحركات الأنغلوسكسونية العرقية التطهيرية والآميش، الى أحزاب اليمين الديني المتشدد اليهودي الذي يطالب بالإبادة، وغيرها من الحركات التي توصف بالعنصرية، مع أن وحدانية إيمان معتنقيها الديني يصل بها الى حدود التطابق مع الفكر والحركات الإسلامية التكفيرية المتشددة.

ونحن لا نجافي الحقيقة إن قلنا أن من رعى نشوء التشدد الإسلامي، ومن زرع بذور الشقاق المذهبي العدائي، ومن أمدّ المتشددين بالمال والسلاح من ناقصي العقل والثقافة والإيمان، إنما كانوا أنفسهم من صوّر للعالم من اللحظة الأولى، أن هذا الصراع إنما هو صراع “حضارات”. والقائلون بهذا لا يفقهون في الحقيقة معنى كلمة “الحضارة” . فالحضارة ليست محصورة بالإيمان الديني وحده، بل إن الحضارة تشمل الى جانب الدين، كافة النشاطات المادية – الروحية لجماعة ما طوال مدة تراكم العصور، منذ أن خرج الإنسان الأول من المغاور والكهوف الجليدية في الألف العاشر قبل الميلاد، الى أيامنا الحالية. فالحضارة تشمل الى جانب الدين، العلوم الطبيعية والطبية والفيزيائية والكيميائية، والرياضية والجغرافية والفلكية، والفلسفات المتتالية والمتواصلة من زمن بابل وكنعان الى اليونان وروما وسورية ومصر والعربة وفارس والهند والصين والغرب، الماضية والحالية، والفن بأشكاله الستة، وسابعها فن السينما والفن الرقمي، وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، والتاريخ بالإضافة الى مجموع التشريعات القانونية التي هندسها البشر لتنظيم حياة الجماعات. كما أن الحروب هي أيضاً إحدى مظاهر الحضارة كونها وسيلة الاحتكاك التي فكت عزلة الجماعات البشرية. كل هذه الشؤون المادية – النفسية الروحية تشكل فروعاً تصب في نهر الحضارة. نقول أن من أطلق تسمية “صراع الحضارات” على ما نشهده اليوم من استقطاب سلبي، ومآس، ومذابح، ما كانوا يفهمون أن الحضارة الإنسانية واحدة متسلسلة منذ أن أحدث أسلافنا نحن السوريين أول ثورة زراعية في تاريخ البشرية، فحولوا مجرى تطور البشر من السعي وراء الغذاء من أجل صيده، الى الاستقرار والعناية بالأرض لتنمية مواردها واستغلال إمكاناتها، وما استتبع ذلك من عمران وتمدن وحواضر سكنية. نعم، إن الحضارة البشرية واحدة وضع أساسها أبناء “مهد الحضارة” سكان البقعة الجغرافية التي أطلق عليها برستد اسم الهلال السوري الخصيب. أجدادنا كانوا صانعي أول محراث، وأول دولاب، وأول حرف، وأول نسيج، وأول مدرسة، وأول علم، وأول الآداب والملاحم، وأول الفلسفات، وأولى الأساطير، الأمور التي ما زال العالم كله يبني على مداميكها. ولو عرف هؤلاء أن حضارة “الغرب” التي يقارنونها ضمناً مع حضارة “الشرق” في ميدان الصراع، لو عرفوا أن بلادنا كانت مصدر حضارة الغرب وواضعة أسسها، لتفتحت بصائرهم على الجهل الذي به يتخبطون، وانتقلوا الى نور المعرفة التي تقربهم منا بدل أن تباعدهم عنا وتضعنا في مواجهة بعضنا البعض.

في توصيف مقتضب وسريع لما نراه من اختلاف في النظرة، فنحن نرى ان الاختلافات الحالية بين ما يسمونه “حضارتهم” و”حضارتنا”، إنما هو اختلاف في سلم القيم داخل الحضارة الواحدة. انهم يتوهمون أن الحضارة مرادف للتكنولوجيا العلمية المتقدمة عنا لديهم. وفي الحقيقة فإن سلم القيم لدى أية جماعة، هو ما يميز رقي جماعة وتقدمها على الأخرى، وليس فقط تقنياتها وابتكاراتها العلمية، على أهميتها. فالقيم النفسية، والاجتماعية المادية – الروحية انما هي ناتج حيوية الجماعة التامة – الأمة – واستعدادها للتطور في كافة المجالات. يظن المتشددون الدينيون -وهنا المشكلة معهم كما نراها – أن الدين وحده هو مصدر القيم الإنسانية. وفي الحقيقة، فإن الدين يأتي بنظرنا في المرتبة الخامسة بعد البيت – العائلة التي يولد فيها الفرد، والمدرسة التي يتعلم فيها الى جانب المعارف، التربية، والأخلاق، ثُم يأتي ثالثا المتحد الأصغر، الذي يستمد منه قيم الجمال واللغة واللكنة، تم يأتي رابعا المتحد الأكبر، المجتمع، الذي يكون خلفيته الحضارية الثقافية، وذاكرته، تم يأتي الدين في المرتبة الخامسة حيث يتعلم الفرد قيم الخير والشر، ويجب أن يأتي هذا المصدر بعد نمو واكتمال العقل لدى الفرد. ثم يأتي بعد ذلك دور الموروث الثقافي الذي يسم أفراد المجتمع كافة بذهنية حضارية واحدة، والذي يعود الى عصور تاريخية موغلة في القدم سبقت عصر ظهور الدين بحالاته الحاضرة التي نعرفها اليوم من منزل أو تشريع أو قدوة، ويتضمن إسهامات المجتمع الروحية والمادية، الثقافية والعلمية بما فيها التكنولوجية، ويمتد الى حالة المجتمع الحاضرة وإبداعات وعطاءات أجياله الحالية.

فالإسلام مثلا، أخضع الإيمان (الذي هو أرقى من مجرد الإسلام) للعقل عندما علم أن “من لا عقل له، لا دين له”، والعقل سواء كان فردياً أم جماعياً، انما هو خلاصة التجربة التاريخية والموروث التقافي الذي يحمل في طياته صعود الأنسان من حالة  الغريزة اللاواعية الى الوعي. هكذا للأسف يرى التشدد الديني المشكلة، وهكذا نراها نحن في عقيدتنا القومية الاجتماعية. كل هذه المصادر للقيم من عائلة ومدرسة ومتحد أصغر، ومتحد أتم، ودين وموروث ثقافي (نسميها Mentality لتبسيط فهمها) هو ما يميز جماعة أو أمة عن غيرها، وهو ما يصنف الجماعات البشرية الى سلالات راقية بالمعنى الثقافي وليس بالمعنى البيولوجي الوراثي، وجماعات في طور الانتقال الى المستوى الحضاري اللائق. التكفير الديني لا يرى سوى من يخالف التعاليم التي حفظها من النص، والتي يجب أن يدافع عنها حتى ولو لم يكن مؤمناً بها ومقتنعاً اقتناعاً عقلياً بها، لا يرى في من يخالفه فيها سوى كافر يستحق الموت، مع أن الدين نفسه، وخاصة الإسلام، لم ينص على إكراه أحد ليكون مؤمنا (لا إكراه في الدين، قد تبين الغي من الرشد….ألخ) أي أن الدين نفسه ترك مجالاً للعقل المدرك أن يتبين الغي من الرشد.

لقد أعمى الموروث الديني المتشدد أتباعه، حتى عن رؤية فضائل الدين في باقي الأديان. فمن الناحية القيمية نرى الدين واحداً يهدي الى الله وحده، ويحث على عمل الخير وتجنب الشر، ويهدي الى الإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب أو الدينونة.  خلاف ذلك، ليس من جوهر الدين، بل من شكليات الاختلاف بين مذهب إيماني وآخر، حتى داخل الدين الواحد نفسه. لقد أعمى النص بصيرة المتأملين في الموروث الثقافي الذي يمتد رجوعاً الى ما قبل نشوء الأديان السماوية، وتقدماً حتى عصرنا الحاضر. فصنف هذا الموروث “وثنيا” أو “أساطير الأولين” أو “كافراً”، علما بأن مضمونه المناقبي الأخلاقي القيمي يرقى الى مصاف الدين السماوي. فإذا كان قانون حمورابي مثلا، (الوثني) قد نص على وجوب معاقبة الولد العاق بأبويه، أفلا يلتقي بهذا مع التعليم الديني السماوي الذي يلزم المؤمن بـ”أكرم أباك وأمك”، وبـ”الوالدين إحساناً” ؟ ألم ينص قانون حمورابي على حماية حق الأرملة واليتيم، وعلى معاقبة من يتجاوز حقوق الأرملة واليتيم والمرأة المطلقة؟ أولم ينص على معاقبة المعتدين على الحق العام، وعلى رفع مكانة المرأة في المجتمع، ألا يتلاقى ذلك مع النص الديني “المنزل”؟ ما الأهم، الغاية أم الوسيلة؟ وما الضير في أن يكون الموروث الثقافي الراقي من قوانين سابقة تاريخاً للدين السماوي جزءاً من السلم القيمي، أنرفضه لمجرد كونه سابقاً للمنزل الديني؟ ان هناك الكثير من الموروث الثقافي القيمي الذي نسميه “وثنيا” يلتقي ويتطابق مع النص الديني المنزل، فيؤكده. وعليه، يجب على المتشدد الديني أن يراجع ما يتوافق مع نصه، ويهمل ما يتعارض مع نصه الديني، ولا يقتصر الموروث الثقافي على القانون المكتوب، بل على فلسفة الإيمان وتنزيه الخالق فيما لو نظر الى الموروث هذا بنظر الناقد المدقق. وهذا ينطبق على العلوم الحديثة أيضاً.

قد يكون هذا التوصيف للفوارق بين نظرة التشدد الديني، والنظرة العلمانية الإيجابية، لكنه مدخل لوضع اقتراحات لكيفية إيجاد حل لا يعترف بصراع الحضارات. هذه هي الخيارات المتاحة كما نراها في نهضتنا القومية

الانفتاح العقلاني، وتدبر الأمور بالنظر الى غاياتها النهائية، ومناقشة الأمور القيمية مناقشة عقلية علمية، بدون أحكام مسبقة.

الاعتراف بمصادر القيم المتعددة وعدم حصرها بالدين مصدراً وحيداً، فالعقل هو الشرع الأعلى وهو القادر على تصور الأفضل والأرقى والأجمل.

تعزيز الإيمان بالدين وغاياته المناقبية، لا التعصب والانغلاق والتمترس خلف المذهبية أو التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان.

الاعتراف بالتنوع والاختلاف من أجل الإحاطة بالحقائق كما يتوجب أن تكون في حالاتها المثلى والفضلى.

التسليم بأن الدين لا يعني الحضارة، ولكنه جزء منها، وذلك في سياق الرد على مروجي نظرية “صراع الحضارات”.

التمييز لدى الاختلاف بين الاختلافات الظرفية وتلك التي تؤدي الى تهديد وجودنا كأمة – اي الاختلافات المصيرية مع من يحاربنا في ديننا وحقنا ووطننا – اليهود.

اللجوء دائماً الى الحوار لحل كافة الاختلافات بعد إشباعها مناقشة تحليلاً.

 التشديد في الحوار على نقاط الالتقاء لا على الاختلافات وتضخيمها وتصويرها بشكل درامي.

البحث الدائم عمّا هو مشترك بيننا كأمة وليس كمجموعة مذاهب “متعايشة” في مكان واحد، وإبراز مظاهر وحدة الحياة ووحدة العوامل المادية – النفسية ووحدة الأرض والوطن. لا يحل مكان عقيدة راسخة إلا عقيدة أرقى وأجمل وأسمى.

كما أن نظرة التشدد الديني الى حد التكفير، قد يكون عطل عمل العقل لقرون سالفة، وبالتالي عرقل عملية استمرار عطاءاتنا الفكرية والإبداعية بعد أن كنا أول من أسس لحضارات العالم، وأول من طبع الثقافة الإنسانية العامة بلوننا الحضاري منذ آلاف السنين، وحتى لمئات السنين بعد ظهور الإسلام ونشوء الدولة الإسلامية، فكانت علومنا في الرياضيات والفلك والكيمياء والطب هي الأساس الذي ظهر يوم كان الغرب غارقاً في قرون ظلامية، والذي عليه بنى الغرب نهضته في القرون الأخيرة. ونحن لا ننكر للغرب مساهمته في إغناء الثقافة الإنسانية العامة بالفكر والعلوم والاختراعات والتقنيات الحديثة، التي ما هي سوى مظهراً -قد يكون مادياً فقط – من مظاهر الحضارة. لكننا نستنكر نكران الغرب لدورنا التأسيسي لكافة الحضارات الحديثة الناشئة، ونكران قدرتنا على النهوض مجدداً والمشاركة من جديد في الإبداع والعطاء بحسب المعايير العلمية الحديثة، واتهامنا بأننا أصحاب حضارة عاصية على التطور، وأن الحل الوحيد هو بإلغائنا من خلال صراع الحضارات أو تحويلنا الى غربيين أو مقلدين له ومستهلكين لقيمه وتقنياته ومفاهيمه.

إننا مدعوون الى استئناف نهضتنا على أسس أكثر تمسكاً بحضارتنا وأشد تفهماً لمقتضيات العصر وعلومه وأبحاثه وتقنياته، وهذا هو في صميم ما تدعو له وتعمل لتحقيقه نهضتنا القومية الاجتماعية في سورية، مع تشجيع الأمم العربية والإسلامية و”الشرقية” على تحقيقه، دون التخلي عن هويتنا الحضارية بكل مكوناتها، بما فيها الدين، لأننا نؤمن أن في نفسيتنا وحضارتنا كل حق وخير وجمال، يستطيع إضافة لوننا الحضاري وقيمنا وقيمتنا المضافة الى الثقافة الإنسانية العامة في عالم متفاعل متعدد الألوان والحضارات.

رأي الحزب السوري القومي الاجتماعي