Ahmad Badredin Hassoun

Grand Mufti of Syria

عندما نتحدث عن خلاف للعالم أجمع، فهذا يعني اجتماع العالم بكلّ مكوناته، ودون أي استثناء في مواجهة أمر ما، وهو هنا في الفكرة المطروحة (التطرف الإسلامي)، والفكرة تتكون من مصطلحين، هما: التطرف والإسلامي، وكأن صفة التطرف خاصة بالإسلام! أما المصطلح الأول، وهو التطرف، فهو فكرة مرفوضة مطلقاً، سواء نسبت إلى الإسلامي أو إلى سواه من المبادئ السامية، فمهما كانت المبادئ سامية ونبيلة، وإن كانت دعوة حب، إن اتّسمت بالتطرف والمغالاة والمبالغة، تصبح ممجوجة مرفوضة، لأنها تحمل صفة الانقياد والتبعية والتعصب، وفوق كل ذلك الجهل، فدعوة سامية – مهما كان نوعها – إن حملها الجاهل  تحولت إلى المغالاة المرفوضة، وفي هذه الآونة يتمّ الحديث عن التطرف الإسلامي، وقد أسس لهذا التطرف مجموعة كبيرة من الظروف الداخلية والخارجية، إذا استطاعت الآلة الإعلامية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي  مباشرة أن تؤسس لما أطلقت عليه ساعة (صراع الحضارات) وأخرى (نهاية التاريخ) وهاتان الفكرتان انطلقتا أساساً من مقالتين تمّ العمل عليهما بحرفية عالية حتى تحولتا إلى نظريتين تبنّتهما الأغلبية الساحقة في الغرب لهانتنغتون وفوكوياما، وقد ركزت الآلة الإعلامية على أن العالم الإسلامي اليوم  صار الخصم بعد انتهاء الحرب الباردة.. وهذا الأمر هيّأ الأجواء الداخلية في العالم الإسلامي للتقوقع، ونشأت في هذا العالم أفكار تريد الدفاع عن ذاتها والكينونة، ومبالغة النظريات المطروحة أدت إلى نشوء أفكار فيها من المبالغة ما فيها، وفي ظلّ الجهل اتسعت دائرة التطرف في الأفكار، ولكننا لا نستطيع أن نقرأ هذا التطرف بمعزل عن تطرف المطروح والنظريات التي جاءت ضمن أفكار العولمة وأحادية القطبية العالمية، ونحن إن وجدنا اليوم – وهو حقيقة – تطرفاً في العالم الإسلامي، فإننا سنجد مثل هذا التطرف في مناطق أخرى، ويحمل انتماءات مخالفة أو مغايرة للإسلام.

أما انتقال الإجماع إلى خلاف وصف بالمستدام مع الإسلام، فهذا أمر خطير، لأنه ينقل مستوى الخلاف من خلاف مع جهل بالمبادىء السامية، إلى خلاف وعداء للمبادئ ذاتها، وهذا الخلاف والعداء المستدام، مع التركيز على كلمة مستدام، يجعل الصراع عقيدياً، وهو أمر يجعل الخلاف طويلاً، وبدل أن يقوم على الحوار للوصول إلى آليات للعيش والتفاهم إلى صراع أرادته النظريات التي بدأت نهايات القرن العشرين، وخطّطت له بمكر ودهاء ضمن منظومة المصالح الاقتصادية والمالية والفكرية والعسكرية، والتسليم بوجود مثل هذا الخلاف يدفعنا للعمل على تجاوزه، والتجاوز يكون برفض التطرف منهجاً من أي جهة كانت، وعدم الاكتفاء بنسبة التطرف إلى الإسلام، ولاحقاً إلى مذاهبه ومعتقداته، لأن هذا سيعمّق هوّة الخلاف أكثر.

الأسباب لهذا الخلاف تتمثل في القوة التي تسعى لتحقيق مصالحها، والمصالح لا تتحقق إلا من خلال وجود شبح التطرف الذي يسوّغ تعميق الخلاف، ويتحوَّل إلى قناعة لدى النخبة، ومن ثم إلى قناعة لدى الشريحة الكبرى التي تقف وراء هذه النخبة.

وتعود الأسباب إلى الجهل المتبادل بالمبادئ السامية التي تنطلق منها الأطراف كافة، إن وجدت، فهذا يدّعي تطرُّف الآخر، ويراه ضده، ولا يرى تطرفه! وذاك يرى تقوّل الآخر، ولا يرى ما لديه من علم وحضارة، والجهل هو الأسّ الذي يعطي مسوّغ الديمومة، والأسباب تعود إلى ما عززته الآلة الإعلامية في عمق روح هذه المجتمعات من عدوانية، خاصة من خلال الحروب المستمرة، والعدوانات المتوالية، والاستباحة لعالم، شئنا أم أبينا، هو إسلامي بأغلبه، وبالتالي كانت التصرفات العدائية من القوة مؤسسة لهذا التطرف المرفوض.

ومن الأسباب الرغبة بالهيمنة، وذلك من خلال خلق كيانات هشَّة، ولن تُبنى مثل هذه الكيانات التي تصبُّ في صالح الدولة الدينية التي تسعى إليها إسرائيل، لن تُبنى إلا من خلال زرع كيانات دينية، بل ومذهبية وطائفية تقوم على التطرف والانعزال والتقوقع، وهذا يسهّل عمليات الهيمنة والسيطرة على مقدرات وشعوب…
ولا شك في أن التناقض الواضح بين الطروحات العلنية، والممارسات سيزيد من التطرف والمواجهة، ففي الوقت الذي تنادي فيه دول العولمة إلى أن يكون العالم قرية صغيرة، يتم فيها تبادل المعلومات، وتمارس فيها حرية التنقل، تقوم القوى ذاتها برفع  وتيرة الخلاف، وممارسة كل أنواع الحجب والمنع وحرية الفكر والتقانة، بل ومحاولات إنهاء هذه المجتمعات بالتخلي عن النخب التنويرية الواعية لصالح التطرف، سواء كان هذا التطرف دينياً أو مذهبياً أو طائفياً أو سياسياً أو قومياً او قطرياً أو مناطقياً أو عرقياً،  وما ظهر من تجليات التطرف أوسع بكثير من أن يوسم بأنه تطرف إسلامي! إنه تطرف مجتمعي، تطرف رافض، تطرف يرى أنه خسر كل شيء دون أن يملك شيئاً، لذا على المؤسسات العلمية والدوائر التي ترتبط بها أن تدرس الأمر بجدية، وألا ترى نفسها على صواب وحدها، وألا ترى أن التطرف في الآخر، وأنه ديني عقائدي، فالأمر أعقد بكثير، ويحمل لبوسات عديدة، لكن أسهل ما يمكن استثارته لدى الآخر، والتجييش من خلاله، هو الدين، وأخطر ما يكون الأمر عندما تتم استثارة الجهلة بالمبادئ، فينساق هؤلاء بجهل مطبق ليس ضد الآخر، بل وضد المبادئ السامية التي ينتمون إليها، ولكنهم يجهلونها تماماً!.

أما اتجاه العالم إلى صراع حضارات فعلي! فالصراع قائم، ومنذ أمد بعيد، ولكنه ليس صراع حضارات، لأن الحضارات لا تتصارع، بل هو صراع مصالح، وصراع اقتصاد، وصراع مال، والأفكار والحضارات ليست إلا وقوداً لهذه الصراعات، وفي التاريخ أن الحضارة الهندية أغنت العرب، والحضارة الفارسية، والحضارة الأوربية عند لقائها بالحضارة العربية، كان التلاقح الحضاري في أوجهه في أثناء دولة الأندلس، بغضِّ النظر عن التقويمات القومية، فمن المنظور الحضاري  لقاء حضارة بأخرى يخلق تبادلاً وحضارة جديدة، أما الصراع فهو فعل غير حضاري، وما من حضارة يمكن أن تصارع بقدر ما يمكن أن تعطي وتأخذ، وحتى على الصعيد الفردي نقول: فعل حضاري أي متحضر، أي إنساني، فكيف  يمكن أن يقوم على صراع؟

هذا الأمر لا يكون إلا برؤية متطرفة تريد اجتثاث هذه الحضارة التي تمثل الصراع معها، وهذا يجعل الصراع مستداماً، فما من حضارة مهما كانت ضعيفة وصغيرة الرقعة يمكن ان يتم اجتثاثها من جذورها.

الصراع موجود منذ أن خلق الله الأرض، وطبيعة الحياة والقوة، ومبادئ الهيمنة هي التي  تتحكم بهذه الصراعات من أجل المصالح والاقتصاد والهيمنة، لذلك وجدنا هذه الصراعات تتلوَّن عبر التاريخ حسب الظروف، فتارةً تأخذ جانباً اقتصادياً، وتارةً تأخذ جانباً ثقافياً، وتارةً عسكرياً، وتارةً تأخذ جانباً عقيدياً وأيديولوجياً كما نرى اليوم، فالصراع قديم وأزلي، ونحن من يحوِّله إلى حوار يغني الإنسان، ونحن من يحوله إلى صراع يفني الإنسان وينهي حياته، واخطر هذه الصراعات تلك التي تقوم على العقيدة لأنها تمتد أكثر، وتعتمد على الغرائز، وتحصد أرواحاً أكثر.

أما نهايته، فمن المؤكد أن النهاية تنتظر هذا الصراع، لكنه بحاجة إلى إرادتنا، إلى إرادة القوة، وإلى إخلاص الداعية إلى إنهائها ووضع خاتمة لها، السؤال الذي يطرح في المقابل: هل ترغب المصالح في إنهاء هذا الصراع؟ هل نؤمن بالاختلاف، وبأن الآخر ليس شرطاً أن يشبهني؟ هل نحن نملك القدرة على لمس نور الجوهر؟ إن النهاية لن تكون بالتمني ولا بالكلام والخطب، بل بالتسليم بالاختلاف، وبالعمل من أجل الإنسان والحضارة، وأن نعمل على حضارة حقيقية، النهاية تكون بوجودنا معاً، ولن تتحقق باجتثاث فئة لصالح فئة، لأنه ما من فئة يمكن أن يتم اجتثاثها أو تحييدها مهما كانت صغيرة، الأحداث أثبتت بأنه ما من جماعة، مهما كانت صغيرة تنتهي، وعندما تحين الفرصة يعود الصراع، وتبحث عن كينونتها.

إن كنا نرى الحياة صراعاً بين خير وشر فإن النهاية بعيدة، ولن تنتهي إلا بانتهاء الحياة، ولكن إن سلّمنا بأن تقسيم الناس إلى أخيار  وأشرار تقسيم غير صحيح وغير منطقي، وبأنه ما من فعل خيّر بالمطلق، وما من فعل شرير بالمطلق، وإن آمنا بأنه ما من أحد يملك الحق والحقيقة، فإننا سنقترب من النهاية، وربما كان السؤال يعني التطرف الإسلامي، أو الإسلام، فالأمر سينتهي عند وجود عدو جديد، وربما من قلب المناطق التي أشار إليها السؤال في آسيا أو في أوروبا، فيلتفت عالم المصالح إلى عدو جديد، وربما صار العالم الإسلامي في مواجهة!

الخيارات هي بالعلم، وبإيماننا بالآخر وحقه في الحياة، وبواجبنا أن نساعده في الوصول إلى التنوير والمعرفة، الخيارات واضحة، لكنها تتعارض مع المصالح والقوة التي ربما وجدت مكاسبها في الصراع أكبر من مكاسبها في السلم!.

فالإله في جوهر الشرائع التي تتصارع هو سلم وسلام، فهل نعود إلى الجوهر وندع الدعوات المتطرفة، فنتوقف عن تغذيتها؟

الأمر معقد جداً، والحلول أبسط مما نتخيل

فهل نجمع المعقد والبسيط؟!.

دمشق في 2 / 6 / 1438هـ الموافق لـ 1 / 3 / 2017م